في ثلث الليل الثَّاني هبّوا من مضاجعهم يتسللون على أطراف أصابعهم كالقِِطَى- كما يصف أحدهم-، وهناك في آخر (مِنى) عند العقبة وفي إحدى الشِعب تجمَّع وفدُ يثرب ليبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية. وينطقُ الأخيار: خذ لربك ودينك ما شئت يا رسول الله!
فيجيب الحبيب صلى الله عليه وسلم: «تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا لومة لائم، وأن تنصروني إذا قدمت عليكم فتمنعوني مما تمنعون منه نسائكم وأنفسكم وأولادكم».
وما لنا يا رسول الله إن فعلنا؟
قال: «ولكم الجنة».
قد كان صلى الله عليه وسلم موقنا أن الله سيُتم هذا الأمر حتى لا يخاف الراكب إلا الله والذئب على غنمه، وأن الفُرس لن تأخذ إلا نطحة أو نطحتان وبعدها يرث المسلمون أرضهم وديارهم وأموالهم، وأن الشام عقر دار الإسلام، ومع ذلك لم يشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنعقد البيعة على أمر دنيوي، بل أراد للنفوس أن تنصرف إلى ما عند الله.
وفي مكة حيث الضعف والانكسار وقلة العدد وانعدام العتاد، وقد تجمعت العرب على كلمة الكفر، وصمُّوا عن الحق آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا على الضلال وإضلال الناس إصرارا، وأنفقوا الأموال كي لا تكون كلمة الله هي العليا، كانت الدعوة لا تتكلم عن شيء أكثر مما تتكلم عن اليوم الأخر ابتداء من القبر وما فيه ويوم الحساب وما فيه والجنة والنار، حتى أصبحت سمة بارزة للقرآن المكي.
بلغة العقلاء... المفكرين... الإصلاحيين: كان الحال يستدعي مرونة في الطرح بإظهار شيء مما تخفيه تِلال الأيام ويستيقن منه الرسول عليه الصلاة والسلام، من نصرٍ وفتحٍ وغنيمةٍ، حتى يكثر العدد وتكون قوة تواجه هذه القوى. ولكن شيئا من هذا لم يحدث، وأصرت الدعوة على أن تبدأ من اليوم الآخر ترغيبا وترهيبا.
تحاول أن تجعل القلوب معلقة بما عند ربها ترجوا رحمته وتخشى عقابه. ويكون كل سعيها دفعا للعقاب وطلبا للثواب فتكون الدنيا بجملتها مطية للآخرة.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو أيضا تربى على هذا المعني، فقد كان يتنزل عليه {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46] {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [يونس: 40].
وهكذا استقامت النفوس تبذل قصارى جهدها في أمر الدنيا ترجوا به ما عند الله فكان حالهم كما وصف ربهم {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: من الآية 29] فهذا وصف للظاهر {ركعا سجدا} ووصف للباطن {يبتغون فضلا من الله ورضوانا}، والسياق يوحي بأن هذه هي هيئتهم الملازمة لهم التي يراهم الرائي عليها حيثما يراهم. كما يقول صاحب الظلال رحمه الله.
هذا حال من ابتدئوا وإنا نجد في كتاب ربنا أننا مُلْزمون بالسير على دربهم واقتفاء آثارهم، قال الله تعالى {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] وقال تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137].
وما لنا أن لا نقتفي آثارهم ونسير على دربهم وهم أنجح جيل في التاريخ ولم يأت مثله في حياة الناس؟
أقول: ومن يتدبر آيات الأحكام في كتاب الله يجد أن هناك إصرار من النص القرآني على وضع صورة الآخرة عند كل أمر ونهي ضمن السياق بواحدة من دلالات اللفظ، المباشرة منها أو غير المباشر (دلالة الإشارة أو التضمن أو الاقتضاء أو مفهوم المخالفة.. الخ)، فمثلا يقول الله تعالى {و َيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ. الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ. أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 1- 6].
فتدبر كيف يأتي الأمر بعدم تطفيف الكيل حين الشراء وبخسه حين البيع؟
ولا أريد أن أعكر صفو النص بكلماتي.
ومثله {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 5].
فهنا أمر بالسعي على الرزق، وتذكيرٌ بأن هناك نشور ووقوف بين يدي الله عز وجل فيسأل المرء عن كسبه من أين وإلى أين؟
بل واقرأ عن الآيات التي تتحدث عن الطلاق في سورة البقرة تجد أنها تختم باسم أو اسمين من أسماء الله عز وجل {... فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: من الآية 227] {... وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: من الآية 231] {... وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: من الآية 34] {... وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: من الآية 233] {.... إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: من الآية 237].
وهذا لا شك استحضار للثواب والعقاب.
وإذا كان هذا أسلوب القرآن العظيم في عرض قضايا الشريعة، وهو ما تربى عليه الصحابة رضوان الله عليهم فلم يغيب الطرح الأخروي عن المشاريع الفكرية التي تنتجها أقلام (الإصلاحيون) وخاصة حين يتكلمون إلى الكافرين أو العلمانيين؟... لم هذا الخطاب الدعوي المنقوص؟
لم لا نخاطبهم: آمنوا بربكم الذي خلقكم ورزقكم وأحياكم ويميتكم ثم يحاسبكم؟
لم لا نناديهم: أسلموا قبل أن تكونوا من جثي جهنم التي وصفها كذا وكذا؟
أسلموا كي لا تحرموا جنة فيها وفيها...؟
ويدور الحوار حول دلائل صدق الخبر ومطلب المخبر.
أسذاجة؟
لا وربي. فهكذا نشأت خير أمّة أخرجت للناس، ودونكم السيرة.
الكاتب: محمد جلال القصاص.
المصدر: موقع طريق الإسلام.